فصل: باب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنَ غُسلِ الْجَنَابَةِ

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةُ‏:‏ تمت وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم غُسْلا‏.‏‏.‏‏.‏-، وذكر الحديث‏:‏ تمت فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ، وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ-‏.‏

اختلف العلماء فى المسح بالمنديل بعد الوضوء، فكره ذلك جابر، وعطاء، وابن أبى ليلى، وابن المسيب، والنخعى، وأبو العالية، وهو قول الحسن بن حى‏.‏

وكره ابن عباس أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه من الجنابة‏.‏

وممن رخص فى ذلك عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن عمر، وأنس بن مالك، وبشير بن أبى مسعود، والحسن، والشعبى، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ذلك مباح كله‏.‏

قال المهلب‏:‏ ويمكن أن يريد بترك المنديل إبقاء بركة بلل الماء والتواضع بذلك لله تعالى، أو لشىء رآه فى المنديل من حرير، أو وسخ، أو لاستعجال كان به، والله أعلم‏.‏

وقد روى ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى معاذ، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء‏.‏

باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِى الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ، وَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ

وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِنَّ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا‏:‏ وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِى إِثْرِهِ، يَقُولُ‏:‏ ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، وَقَالتْ‏:‏ وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا-‏.‏

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ‏.‏

- وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ‏:‏ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْكَ عَمَّا تَرَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث موسى، وأيوب دليل على إباحة التعرى فى الخلوة للغسل وغيره، بحيث يأمن أعين الناس، لأن أيوب وموسى من الذين أمرنا أن نهتدى بهداهم، ألا ترى أن الله عاتب أيوب على جمع الجراد، ولم يعاتبه على غسله عريانًا، ولو كلف الله عباده الاستتار فى الخلوة كان فى ذلك حرج على العباد، إذ كان المغتسل من الجنابة لا يجد بدًا من التعرى والله تعالى لا يغيب عنه شىء من خلقه، عراة كانوا أو مكتسين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب كراهية التعرى فى الصلاة وغيرها، إن شاء الله، إلا أن الاستتار فى الخلوة من حسن الأدب‏.‏

وقد روى ابن وهب، عن ابن مهدى، عن خالد بن حميد، عن بعض أهل الشام، أن ابن عباس لم يكن يغتسل فى بحر ولا نهر إلا وعليه إزار، فإذا سئل عن ذلك، قال‏:‏ إن له عامرًا‏.‏

وروى برد، عن مكحول، عن عطية، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت من اغتسل بليل فى فضاء فليتحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه-‏.‏

وفى مرسلات الزهرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تمت لا تغتسلوا فى الصحراء إلا أن لا تجدوا متوارى، فإن لم تجدوا متوارى فليخط أحدكم كالدائرة، ثم يسمى الله ويغتسل فيها-‏.‏

وفى حديث موسى دليل على إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية إلى ذلك من مداواة، أو براءة مما رمى به من العيوب كالبرص وغيره من الأدواء التى يتحاكم الناس فيها مما لابد فيها من رؤية أهل النظر بها، فلا بأس برؤية العورات للبراءة من ذلك أو لإثبات العيوب فيه والمعالجة‏.‏

وفيه‏:‏ آية لموسى صلى الله عليه وسلم فى مشى الحجر‏.‏

وفيه‏:‏ إجراء خُلق الإنسان عند الضجر على من يعقل، ومن لا يعقل، كما جرى من موسى فى ضربه للحجر، وإن كان الحجر قد جعل الله فيه قوةً مشى بها فلذلك ضربه، لأنه إذا أمكن أن يمشى بثوبه، أمكن أن يخشى الضرب، ألا ترى قول أبى هريرة‏:‏ والله إنه لندب بالحجر، يعنى آثار ضرب موسى صلى الله عليه وسلم بقيت فى الحجر آية لهم‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الحلف على الأخبار لحلف أبى هريرة أن موسى ضرب الحجر وأَثَّر فيه ضربه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت إنه لندب بالحجر-، قال صاحب العين‏:‏ الندب أثر الجرح‏.‏

وأما غتسال بنى إسرائيل عراة ينظر بعضهم إلى بعض، فيدل أنهم كانوا عصاة له فى ذلك غير مقتدين بسنته إذ كان هو يغتسل حيث لا يراه أحد، ويطلب الخلوة، فكان الواجب عليهم الاقتداء به فى ذلك، ولو كان اغتسالهم عراةً فى غير الخلوة عن علم موسى وإقراره لذلك، لم يلزمنا فعله، لأن فى شريعتنا الأمر بستر العورة عن أعين الآدميين، وذلك فرض علينا، وهو فى الخلاء حسن غير واجب‏.‏

وأما حديث بهز بن حكيم‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تمت إن الله أحق أن يستحى منه-، فهو محمول عند الفقهاء على الندب والاستحباب للتستر فى الخلوة لا على الإيجاب لما ذكرناه‏.‏

وفى حديث أيوب جواز الحرص على المال الحلال وفضل الغنى، لأنه سماه بركةً‏.‏

باب التَّسَتُّرِ فِى الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ

- فيه‏:‏ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ‏:‏ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ‏:‏ تمت مَنْ هَذِهِ-‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ‏:‏ سَتَرْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

أجمع العلماء على وجوب ستر العورة عن أعين الناظرين، وأصل هذين الحديثين ومصداقهما فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏، وفى هذا دليل على أن الجناح غير مرفوع فيهن، وقوله‏:‏ ‏(‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ‏(‏أى إن هذه الأوقات أكثر ما يخلو فيها الرجل بأهله للجماع، حظر الله ذلك على الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا جرت عليهم الأقلام، يدل أنه واجب على غيرهم من الرجال والنساء التستر الذى أراده الله‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏، فعد علينا نعمته فى ذلك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، فقرن غض الأبصار عن العورات بحفظ الفروج، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا يطوفن بالبيت عريان-، فكما لا يحل لأحد أن يبدى عن فرجه لأحد من غير ضرورة مضطرة له إلى ذلك، فكذلك لا يجب أن ينظر إلى فرج أحد من غير ضرورة، واتفق أئمة الفتوى على أنه من دخل الحمام بغير مئزر أنه تسقط شهادته بذلك، هذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى‏.‏

واختلفوا إذا نزع مئزره، ثم دخل الحوض وبدت عورته عند دخوله، فقال مالك والشافعى‏:‏ تسقط شهادته بذلك أيضًا‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى‏:‏ لا تسقط شهادته بذلك، وهذا يعذر به، لأنه لا يمكن التحرز منه‏.‏

وروى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ تمت احفظ عورتك واسترها إلا عن زوجتك وأمتك-‏.‏

وأجمع العلماء على أن للرجل أن يرى عورة أهله وترى عورته‏.‏

باب إِذَا احْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِى طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ، إِذَا هِىَ احْتَلَمَتْ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ‏.‏

لا خلاف بين العلماء أن النساء إذا احتلمن ورأين الماء، أن عليهن الغسل وحكمهن حكم الرجال فى ذلك، وفيه دليل أن ليس كل النساء يحتلمن، لأن فى غير هذه الرواية أن أم سلمة غطت وجهها استحياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت لأم سليم‏:‏ وهل ترى ذلك المرأة‏؟‏‏.‏

وكذلك أنكرت عائشة أيضًا فى حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة‏.‏

وقد يفقد بعض الرجال الاحتلام، فكذلك النساء‏.‏

وفى قول أم سليم‏:‏ تمت إن الله لا يستحى من الحق-، أنه يلزم كل من جهل شيئًا من دينه أن يسأل عنه العالمين به، وأنه محمود بذلك، ألا ترى قول عائشة، رضى الله عنها‏:‏ تمت نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين-‏.‏

وإنما يكون الحياء فيما تجد المرأة من ذكره بدا، وأما ما يلزم السؤال عنه، فلا حياء فيه‏.‏

وإنما اعتذرت أم سليم من مشافهة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، إذ سؤالها له أثبت فى نفسها، فلذلك قدمت بين يدى قولها‏:‏ تمت إن الله لا يستحى من الحق‏.‏

باب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُس

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِى بَعْضِ طَرِقِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْبخَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ‏:‏ تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ-‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ، وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ‏:‏ تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤمن لا يَنْجُسُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل على أن الجنابة إذا لم تكن عينًا فى الأجسام، فإن المؤمن حينئذ طاهر الأعضاء، بحال ما المؤمنون عليه من التطهر والنظافة لأعضائهم، بخلاف ما عليه المشركون من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار، فحملت كل طائفة على خلقها وعادتها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ تغليبًا للحال، وقد قيل فى قوله الله‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ‏(‏ليس بمعنى نجاسة الأعضاء، لكن بمعنى نجاسة الأفعال، والكراهة لهم، والإبعاد عما قد بَيَّن الله من بقعة أو كتاب أو رجل صالح، ولا خلاف بين الفقهاء فى طهارة عرق الجنب والحائض‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وكذلك عرق اليهودى، والنصرانى، والمجوسى عندى طاهر‏.‏

وقال غيره‏:‏ لما أباح الله نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من ضاجعهن، وأجمعت الأمة على أنه لا غسل عليه من الكتابية إلا كما عليه من المسلمة، دل ذلك على أن ابن آدم ليس بنجس فى ذاته، ما لم تعرض له نجاسة تحل به‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فانبخست منه-، وهكذا وقعت هذه اللفظة تمت فانبخست منه- بالخاء، وفى بعض النسخ لابن السكن تمت فانبجست منه- بالجيم، وأما بالخاء فلا أعرف له معنى، وأما بالجيم فيحتمل أن يكون من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ أى انفجرت وجرت، والأشبه أن يكون فانخسنت منه، قال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ خنس من بين القوم يخنس خنوسًا‏:‏ إذا انقبض، وخنوس الكواكب اختفاؤها‏.‏

باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِى فِى السُّوقِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسَ‏:‏ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ لَقِيَنِى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ منه وَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ‏:‏ تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ‏؟‏- فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ-‏.‏

وإنما أراد البخارى أن يريك أن الجنب لا ينجس بالسنة، وأنه يجوز له التصرف فى أموره كلها قبل الغسل، ويرد قول طائفة من السلف أوجبت عليه الوضوء‏.‏

روى عن سعد بن أبى وقاص أنه كان إذا أجنب لا يخرج لحاجته حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، وعن ابن عباس مثله، وبه قال عطاء والحسن‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ لا يأكل ولا يشرب حتى يتوضأ للصلاة‏.‏

روى ذلك عن على، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعطاء‏.‏

والذى عليه الناس فى ذلك ما روى عن أبى الضحى أنه سئل أيأكل الجنب‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ويمشى فى الأسواق، ولم يذكر أنه توضأ قبل ذلك وهذا قول مالك، وأكثر الفقهاء، أن الوضوء ليس بواجب عليه إذا أراد الخروج فى حاجاته، وليس فى حديث أنس أن النبى كأن يتوضأ حين كان يطوف على كل امرأة من نسائه، ولا فى حديث أبى هريرة أن المؤمن لا ينجس إذا كان قد توضأ بعد الجنابة‏.‏

وممن قال لا وضوء عليه إذا أراد أن يطعم‏:‏ مالك، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو الذى يدل عليه حديث أبى هريرة‏.‏

وفى حديث أبى هريرة‏:‏ جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومن هو دونه ومشيه معه معتمدًا عليه ومرتفقًا به‏.‏

وفيه‏:‏ أن من حسن الأدب لمن مشى معه معلمه أو رئيسه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لأبى هريرة حين انصرف إليه‏:‏ تمت أين كنت يا أبا هريرة‏؟‏- فدل ذلك على أنه استحب له أن لا يفارقه حتى ينصرف معه‏.‏

باب كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِى الْبَيْتِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَتَوَضَّأُ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ أَنه سَأَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ- وَهُوَ جُنُبٌ‏.‏

- وقَالَ لَهُ مرة‏:‏ تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِىُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، غَسَلَ فَرْجَهُ، وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ‏.‏

واختلف العلماء فى نوم الجنب، فقالت طائفة‏:‏ بظاهر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه توضأ وضوءه للصلاة، وكذلك ينام، روى هذا عن على، وابن عباس، وعائشة، وأبى سعيد الخدرى، ومن التابعين‏:‏ النخعى، وطاوس، والحسن، وبه قال‏:‏ مالك، والليث، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، كلهم يستحبون الوضوء، ويأمرون به‏.‏

وشذ أهل الظاهر، فأوجبوا عليه الوضوء فرضًا، وهذا قول مهجور لم يتابعهم عليه أحد، فلا معنى له، وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ إن شاء أن ينام قبل أن يتوضأ، وإليه ذهب أبو يوسف، فقال‏:‏ لا بأس أن ينام الجنب قبل أن يتوضأ، لأن الوضوء لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، ومن حجته ما رواه الأعمش، عن أبى إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجنب ثم ينام ولا يمس ماء، حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ هذا الحديث غلط، اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ فيه، وذلك ما حدثنا فهد، قال‏:‏ حدثنا أبو غسان، قال‏:‏ حدثنا زهير، قال‏:‏ حدثنا أبو إسحاق، قال‏:‏ أتيت الأسود بن يزيد فقلت‏:‏ حدثنى ما حدثتك عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قالت‏:‏ كان ينام أول الليل، ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة، قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول، أفاض عليه الماء، وإن نام جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة، فهذا الأسود بن يزيد قد بان فى حديثه أنه كان إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ للصلاة، وبان أن قولها‏:‏ ثم ينام قبل أن يمس ماء، يعنى الغسل لا الوضوء، والدليل على صحة ذلك ما رواه البخارى عن عمر، وعائشة، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال‏:‏ إذا توضأ قبل أن ينام، كان كمن اغتسل فى الثواب الذى يكتب لمن بات على طهر‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ لا ينام الجنب حتى يتوضأ للصلاة فإنه لا يدرى لعل نفسه تصاب فى نومه، فيكون قد أخذ بأى الطهارتين‏.‏

فأما ما روى عن ابن عمر أنه كان يتوضأ، ولا يغسل قدميه، فيدل ذلك أن محمل الحديث عندهم على الندب، لا على الوجوب، لأن ابن عمر روى الحديث عن أبيه، عن النبى وعَلِمَهُ فلم يترك غسل قدميه، إلا أنهم تلقوا الحديث على أن الوضوء على غير الإيجاب‏.‏

باب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَان

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ-‏.‏

ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلى وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وإن لم ينزلا، على ما ثبت فى هذا الحديث، وقد روى مالك فى الموطأ عن عائشة أنها قالت‏:‏ إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وهى أعلم بهذا، لأنها شاهدت تطهر رسول الله حياته وعاينته عملا، فقولها أولى ممن لم يشاهد ذلك، وروى عن على بن أبى طالب خلافه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وأجمع التابعون ومن بعدهم على القول بهذا الحديث‏.‏

وإذا كان فى المسألة قولان بعد انقراض الصحابة، ثم أجمع العصر الثانى بعدهم على أحد القولين، كان ذلك مسقطًا للخلاف قبله ويصير ذلك إجماعًا، وإجماع الأعصار عندنا حجة كإجماع الصحابة، وسنتقصى الكلام فى هذه المسألة فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ تمت جهدها- أى بلغ مشقتها، قال صاحب الأفعال‏:‏ يقال‏:‏ جهدته جهدًا، وأجهدته بلغت مشقته، هذا قول الأصمعى، وقال الأعمش‏:‏ جهدن لها مع إجهادها به وجهده المرض وأجهده، وجهد فى الأمر، وأجهد‏:‏ بلغ فيه الجهد، وجهدت الفرس، وأجهدته‏:‏ استخرجت جهده‏.‏

وقال الحسن، رحمه الله‏:‏ إن الحق جهد الناس ولن يصبر عليه إلا من رجا ثوابه عز وجل‏.‏

باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ زَيْدَ بْنَ خَالِد أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ‏؟‏ قَالَ عُثْمَانُ‏:‏ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ‏:‏ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةَ ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو أَيُّوبَ الأنصارى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- ورواه أَبُو أَيُّوبَ، مرة، عَنْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ تمت يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى-‏.‏

قَالَ البخارى‏:‏ الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الآخِرُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّاه لاخْتِلافِهِمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الأثرم‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن حديث عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال‏:‏ سألت خمسة من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ عثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأُبَىّ بن كعب، فقالوا‏:‏ الماء من الماء، فيه علة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ما يروى من خلافه عنهم‏.‏

وقال يعقوب بن شيبة‏:‏ سمعت على بن المدينى وسئل عن هذا الحديث، فقال‏:‏ إسناد حسن، ولكنه حديث شاذ، فإن على بن زيد قد روى عن عثمان، وعلى، وأُبَىّ بأسانيد حسان أنهم أفتوا بخلافه‏.‏

قال يعقوب‏:‏ وهو حديث منسوخ، كانت هذه الفتيا فى أول الإسلام، ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل-‏.‏

وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، قال‏:‏ حدثنى بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، عن أُبَىّ بن كعب أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الماء من الماء رخصة فى أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل بعد ذلك‏.‏

وقال موسى بن هارون‏:‏ رواه أبو حازم، عن سهل بن سعد، وأظن ابن شهاب سمعه منه، فهذا أُبَىّ يخبر أن هذا من الناسخ لقوله‏:‏ تمت الماء من الماء‏.‏

وروى يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن محمود بن لبيد أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل‏؟‏ فقال زيد‏:‏ يغتسل، فقلت‏:‏ إن أُبَىّ بن كعب كان لا يرى الغسل، قال‏:‏ إن أُبَىّ نزع عن ذلك قبل أن يموت‏.‏

فهذا أُبَىّ قد قال هذا، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم خلافه، فلا يجوز أن يقول هذا إلا وقد ثبت عنده نسخ ذلك، وأما رجوع عثمان، فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون‏:‏ إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، فلا يجوز أن يقول هذا عثمان إلا وقد ثبت عنده النسخ‏.‏

وأما رجوع على، فرواه معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن على، قال‏:‏ كما يجب الحد يجب الغسل، ورواه الثورى عن أبى جعفر، عن على، ثم قد كشف عن ذلك عمر بن الخطاب بحضرة أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فلم يثبت عنده إلا الغسل، فحمل الناس عليه، فسلموا لأمره، فدل ذلك على رجوعهم إلى قوله‏.‏

روى الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر بن أبى حيية، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال‏:‏ تذاكر أصحاب رسول الله عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم‏:‏ إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وقال بعضهم‏:‏ الماء من الماء‏.‏

فقال عمر‏:‏ قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم‏؟‏ فقال على‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن أردت أن تعلم ذلك، فأرسل إلى أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فاسألهن عن ذلك، فأرسل إلى عائشة، فقالت‏:‏ إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر عند ذلك‏:‏ لا أسمع أحدًا يقول‏:‏ الما من الماء إلا جعلته نكالا، فحمل الناس عليه ولم ينكره عليه منكر‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع فى الفرج الذى لا إنزال معه حدث، فقال قوم‏:‏ هذا أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل، وقال قوم‏:‏ هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه الوضوء، فأردنا أن ننظر فى ذلك، لنعلم الصواب فيه، فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين، وإن لم يكن معه إنزال فيوجب ذلك فى الحج‏:‏ الدم وقضاء الحج، ويوجب فى الصيام‏:‏ القضاء والكفارة، ولو جامع فيما دون الفرج لوجب عليه فى الحج الدم فقط، ولم يجب عليه فى الصيام شىء إلا أن ينزل، وكذلك لو زنا بامرأة وإن لم ينزل فعليه الحد، ولو فعل ذلك على وجه شبهة لسقط عنه الحد، ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه حد ولا مهر، ولكنه يعزر إن لم يكن هناك شبهة، وكذلك من تزوج امرأة فجامعها فى الفرج، ثم طلقها كان عليه المهر أنزل أو لم ينزل ووجبت عليها العدة، وأحلها ذلك لزوجها الأول، فإن جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه شىء، وكان عليه فى الطلاق نصف المهر إن كان سمى لها مهرًا، أو المتعة إن لم يكن سمى لها مهرًا، فلما وجب فى هذه الأشياء التى لا إنزال معها ما يجب فى الجماع الذى معه الإنزال من الحد، والمهر، وغير ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون فيه أغلظ مما يجب فى الأحداث وهو الغسل‏.‏

وحجة أخرى‏:‏ وهو أنا رأينا هذه الأشياء التى وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال، لم يجب للإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى لو أن رجلا زنا بامرأة والتقى ختاناهما، وجب عليهما الحد بذلك، ولو أقام عليها حتى أنزل لم تجب عليه عقوبة غير الحد الذى وجب عليه لالتقاء الختانين، فكان الحكم فى ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، فالنظر فى ذلك أن يكون الغسل لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، قاله الطحاوي‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْحَيْض

قَالَ اللَّه تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ‏(‏إِلَى‏:‏ ‏(‏الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز وطء الحائض، وإن انقطع دمها حتى تغتسل بالماء، روى هذا عن الحسن، والنخعى، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة، ومجاهد، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏.‏

واختلف العلماء فى الحائض هل يجوز وطؤها إذا انقطع دمها قبل أن تغتسل أم لا‏؟‏ فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ لا توطأ حتى تغتسل بالماء، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والحسن، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن انقطع دمها بعد عشرة أيام، الذى هو عنده أكثر الحيض، جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن انقطع دمها قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يمر عليها وقت صلاة، لأن الصلاة تجب عنده آخر الوقت، فإذا مضى عليها آخر الوقت ووجبت عليها الصلاة، علم أن الحيض قد زال، لأن الحائض لا يجب عليها صلاة‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إن غسلت فرجها جاز لزوجها وطؤها، وأن لم تغسله لم يجز، وبه قالت طائفة من أصحاب الحديث، وروى مثله عن عطاء، وطاوس، وقتادة‏.‏

واحنج أهل هذه المقالة بقوله‏:‏ ‏(‏حتى يطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ أى حتى ينقطع دمهن، فجعل تعالى غاية منع قربها انقطاع دمها، والدليل على ذلك أن الصوم قد حل لها بانقطاع دمها، فوجب أن يحل وطؤها قبل الغسل، كالجنب يجوز مجامعتها قبل الغسل، قالوا‏:‏ ولا يخلو بعد انقطاع الدم وقبل الغسل أن تكون طاهرًا أو حائضًا، فإن كانت حائضًا فالغسل ساقط عنها، وفى اتفاقهم أن الغسل عليها واجب بانقطاع الدم دليل أنها قد طهرت من حيضتها، والطاهر جائز وطؤها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ إباحة ثانية، وابتداء كلام غير الأول، لأن الطهر شىء والتطهير غيره، مثال ذلك، لو أن رجلا صائمًا قال لرجل‏:‏ لا تكلمنى حتى أفطر، فإذا صليت المغرب كلمنى، وإنما وقع التحريج فى المخاطبة فى وقت الصوم، لأن غاية التحريج كانت إلى الإفطار، ثم إباحة أن يكلمه بعد وجوب الإفطار وبعد أن يصلى المغربن كما أبيح وطء الحائض بعد الطهر، وبعد التطهير تأكيدًا للتحليل، غير أن قوله‏:‏ ‏(‏يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ دلالة أن الذى يأتى زوجته بعد أن تنتظف بالماء أحمد عند الله، كمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا كان أحمد ممن توضأ مرة مرة‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا‏:‏ الدليل على أن المراد بالآية التطهر بالماء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ فأضاف الفعل إليهن، ولا يجوز أن يعود إلى انقطاع الدم، لأنه لا فعل لها فى قطعه، فعلم أنه أراد التطهير بالماء، ألا ترى أنه تعالى أثنى على من فعل ذلك بقوله‏:‏ ‏)‏ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، والثناء لا يقع إلا على فعل يقع من جهتهن، وتقدير الآية‏:‏ لا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن وهذا كقولك‏:‏ لا تعط زيدًا شيئًا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار وقعد فأعطه، فيقتضى ألا يستحق العطاء إلا بشرطين وهما‏:‏ الدخول والقعود، وقد يقع التحريم بشىء، ولا يزول بزواله بعلة أخرى، كقوله فى المبتوتة‏:‏ ‏(‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج، وتعتد منه، وكقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض- ومعلوم أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر، ولم تكن هاهنا تمت حتى- بمبيحة لما قام الدليل على خَطَرِه‏.‏

وقول أبى حنيفة لا وجه له، وقد حكم أبو حنيفة وأصحابه للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض فى العدة، وقالوا‏:‏ لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ولا أعلم أحدًا ممن روى عنه العلم من التابعين ذكر فى ذلك وقت صلاة‏.‏

باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ

وَقَوْلُ الرَسُولُ‏:‏ ‏(‏هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ‏.‏

وَحَدِيثُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ خَرَجْنَا لا نَرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَبْكِى، قَالَ‏:‏ تمت مَا لَكِ أَنُفِسْتِ‏؟‏- قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ تمت إِنَّ هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ- الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث يدل على أن الحيض مكتوب على بنات آدم فمن بعدهن من البنات كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو من أصل خلقتهن الذى فيه صلاحهن، قال الله فى زكريا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏‏.‏

قال أهل التأويل‏:‏ يعنى رد الله إليها حيضها لتحمل، وهو من حكمة البارى الذى جعله سببًا للنسل، ألا ترى أن المرأة إذا ارتفع حيضها لم تحمل، هذه عادة لاتنخرم‏.‏

قال غيره‏:‏ وليس فيما أتى به من قصة زكريا حجة، لأن زكريا من أولاد بنى إسرائيل، والحجة القاطعة فى ذلك، قول الله فى قصة إبراهيم حين بُشِّر بالولد‏:‏ ‏(‏وامرأته قائمة فضحكت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ يعنى حاضت وهذا معروف فى اللغة، يقال‏:‏ ضحكت المرأة إذا حاضت، وكذلك الأرنب‏.‏

وإبراهيم هو جد إسرائيل، لأن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولم ينزل على بنى إسرائيل كتاب إلا على موسى، فدل ذلك على أن الحيض كان قبل بنى إسرائيل، وحديث النبى يشهد لصحة هذا التأويل، وسيأتى تفسير قوله‏:‏ تمت أنفست‏؟‏- فى باب من سمى النفاس حيضًا، بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِى الْحَائِضُ، أَوْ تَدْنُو مِنِّى الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ‏؟‏ قَالَ عُرْوَةُ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ عَلَىَّ هَيِّنٌ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِى ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ، أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ وَهِىَ حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، يُدْنِى لَهَا رَأْسَهُ، وَهِىَ فِى حُجْرَتِهَا‏.‏

لا اختلاف بين العلماء فى جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، إلا شىء روى عن ابن عباس فى ذلك‏.‏

ذكر ابن أبى شيبة، قال‏:‏ حدثنا ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه قالت‏:‏ دخل ابن عباس على ميمونة، فقالت‏:‏ أى بنى، مالى أراك شعثًا رأسك، قال‏:‏ إن أم عمار مرجلتى حائض، فقالت‏:‏ أى بنى، وأين الحيضة من اليد‏؟‏ كان رسول الله يضع رأسه فى حجر إحدانا وهى حائض‏.‏

واستدلال عروة فى ذلك حسن، كاستدلال ميمونة، وهو حجة فى طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه دليل على أن المباشرة التى قال الله‏:‏ ‏(‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم لمس، وإنما أراد بها تعالى الجماع، وما دونه من دواعى اللذة، ألا ترى أنه معتكفًا فى المسجد، ويدنى لها رأسه ترجله‏.‏

تمت والجوار- هو الاعتكاف‏.‏

وفى الحديث حجة على الشافعى فى أن المباشرة الحقيقية مثل ما فى الحديث لا تنقض الوضوء‏.‏

وفيه‏:‏ ترجيل الشعر للرجال وما فى معناه من الزينة‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة الحائض زوجها وتنظيفها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم حين طلب منها الخمرة‏:‏ تمت ليس حيضتك فى يدك-‏.‏

وفيه‏:‏ أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا‏.‏

باب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِىَ حَائِضٌ

وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِى رَزِينٍ، لتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ، فَتُمْسِكُهُ بِعِلاقَتِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كَانَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَّكِئُ فِى حَجْرِى وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى فى هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها للقرآن، لأ المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته وها هو ذا صلى الله عليه وسلم أفضل المؤمنين بنبوته وحرمة ما أودعه الله من طيب كلامه فى حجر حائض تاليًا للقرآن‏.‏

وقد اختلف العلماء فى ذلك فمن رخص للحائض والجنب فى حمل المصحف بعلاقته، الحكم بن عيينة، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبى سليمان، وهو قول أهل الظاهر‏.‏

واحتجوا بأن تأويل قوله‏:‏ ‏(‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏ أنهم السفرة الكرام البررة، ولو كان ذلك نهيًا لقال تعالى‏:‏ لا يَمَسَّه‏.‏

وقالوا أيضًا‏:‏ لما جاز للحائض والجنب حمل الدنانير والدراهم وفيها ذكر الله فكذلك المصحف‏.‏

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت المؤمن لا ينجس-، وبكتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حرامًا ما كتب رسول الله بآى القرآن، وهو يعلم أنهم يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، قالوا‏:‏ وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، وقراءة القرآن فى معنى ذكر الله، ولا حجة تفرق بينهما‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة أن سعيد بن جبير دفع المصحف بعلاقته إلى غلام له مجوسى، وأجاز الشعبى، ومحمد بن سيرين مس المصحف على غير وضوء، وقال جمهور العلماء‏:‏ لا يمس المصحف حائض ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج أكثرهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏، قالوا‏:‏ فلا يحمله إلا طاهر، إلا أن مالكًا قال‏:‏ لا بأس أن يحمله المسافر غير طاهر فى خرج أو عيبة، إذا لم يقصد لحمله ولا مسه، ولا بأس أن يحمله اليهودي والنصرانى فى القلم للضرورة، وأرجو أن يكون إمساك الصبيان للمصاحف للتعليم على غير وضوء خفيفًا، إن شاء الله‏.‏

واحتج هؤلاء الذين لم يجيزوا حمل المصحف إلا للطاهر بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن‏:‏ تمت لا يمس المصحف إلا طاهر- وأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهى حائض ويُمسَكُ لها المصحف ولا تمسكه هى، ولو كان إمساكها له وهى حائض كإمساك غيرها لما أمسكه غيرها، ولعرفها أحد من الصحابة أن قراءتها فيه جائز، وسأذكر اختلافهم فى قراءة الحائض، وحجة كل فريق منهم فى باب تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا

- فيه‏:‏ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ‏:‏ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِىِّ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، قَالَ‏:‏ تمت أَنُفِسْتِ‏؟‏- قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَدَعَانِى فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان حق الترجمة أن يقول باب من سمى الحيض نفاسًا، فلما لم يجد البخارى للنبى نصا فى النفساء، وحكم دمها فى المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا فى هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض فى ترك الصلاة، لأنه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النفاس حيضًا، لاشتراكهما فى التسمية من جهة اللغة العربية أن الدم هو النفس، ولزم الحكم بما لم ينص عليه مما نص وحكم للنفساء بترك الصلاة ما دان دمها موجودًا‏.‏

وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ إنما هو تمت أَنَفِسْتِ- بفتح النون وكسر الفاء، ومعناه حضت، يقال‏:‏ نَفِسَت المرأة إذا حاضت ونُفِست من النفاس مضمومة النون‏.‏

قال المؤلف‏:‏ رواية أهل الحديث نُفِسْتِ بضم النون فى الحيض صحيحة فى لغة العرب،‏.‏

ذكر أبو على، عن أبى حاتم، عن الأصمعى، قال‏:‏ نُفست المرأة تنفُس، فى الحيض والولادة، وهى نُفساء ونَفِساء‏.‏

وفى كتاب الأفعال‏:‏ نُفِسَت ونَفِسَت لغتان من النفاس‏.‏

باب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلانَا جُنُبٌ، وَكَانَ يَأْمُرُنِى فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ‏.‏

- وقَالَتْ مرة‏:‏ كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِى ثوب حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا‏.‏

قَالَتْ‏:‏ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ‏؟‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مَيْمُونَةَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ، وَهِىَ حَائِضٌ‏.‏

اختلف العلماء فى مباشرة الحائض، فقال مالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى‏:‏ له منها ما فوق الإزار، ولا يقرب ما دون الإزار، وهو ما دون الركبة إلى الفرج، وهو قول سعيد بن المسيب، وسالم، والقاسم، وطاوس، وشريح، وقتادة، وسليمان ابن يسار‏.‏

وحجة أهل هذه المقالة ظاهر حديث عائشة وميمونة، لأنه لو كان الممنوع منها موضع الدم فقط لم يقل لها صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت شدى عليك إزارك- لأنه لا يخاف منه صلى الله عليه وسلم التعرض لمكان الدم الممنوع، لملكه لإربه، ولكنه امتنع مما قارب الموضع الممنوع، لأنه من دواعيه، وقد جاء فى الشريعة المنع من دواعى الشىء المحرم لغلظه، من ذلك‏:‏ الخطبة فى العدة، ونكاح المحرم، وتطيبه، لأن ذلك يدعو إلى شهوة الجماع المفسد للحج، وحكم لما قرب من الفأرة من السمن بحكم الفأرة، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه- وقالت طائفة‏:‏ يجوز له أن يستمع منها بما دون الفرج، روى هذا عن ابن عباس، ومسروق، والنخعى، والشعبى، والحكم، وعكرمة، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأصبغ بن الفرج‏.‏

واحتجوا بما رواه أيوب، عن أبى معشر، عن النخعى، عن مسروق، قال‏:‏ سألت عائشة، رضى الله عنها، ما يحل لى من امرأتى وهى حائض‏؟‏ قالت‏:‏ كل شىء إلا الفرج‏.‏

فلما منع من الإيلاج فى الفرج لم يمنع مما قاربه‏.‏

واحتجوا أيضًا بما رواه الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم، عن عاشة، أن النبى قال لها‏:‏ تمت ناولينى الخمرة- قلت‏:‏ إنى حائض، قال‏:‏ تمت إن حيضتك ليست فى يدك- فبان أن كل موضع لا يكون موضعًا للحيض لا يتعلق به حكم الحيض‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لما كان الجماع فى الفرج يوجب الحد، والمهر والغسل، ورأينا الجماع فى غيره لا يوجب شيئًا من ذلك، دل أن الجماع فيما دون الفرج تحت الإزار أشبه بالجماع فوق الإزار منه بالجماع فى الفرج، وثبت أن ما دون الفرج مباح‏.‏

وفى حديث عائشة وميمونة من الفقه بيان قول الله‏:‏ ‏(‏فاعتزلوا النساء فى المحيض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ أن المراد به الجماع، لا المؤاكلة، ولا الاضطجاع فى ثوب واحد وشبهه، ورفع الله عنا الإصر الذى كان على بنى إسرائيل فى ذلك، وذلك أن المرأة منهن كانت إذا حاضت أخروها عن البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، فسئل عن ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ فقال النبى‏:‏ تمت جالسوهن فى البيوت، واصنعوا كل شىء إلا النكاح-‏.‏

رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس‏.‏

باب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ‏:‏ تمت يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّى أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ- قُلْنَ‏:‏ وَلمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ-، قُلْنَ‏:‏ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ‏؟‏- قُلْنَ‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا- قَالَ‏:‏ تمت أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ‏؟‏- قُلْنَ‏:‏ بَلَى، قَالَ‏:‏ تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم- نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم فى أيام حيضها، والأمة على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلا طائفة من الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأمة من السلف والخلف على خلافهم‏.‏

وفيه‏:‏ خروج النساء إلى العيدين‏.‏

وفيه‏:‏ الشفاعة للمساكين وغيرهم أن يسأل لهم‏.‏

وفيه‏:‏ حجة على من كره السؤال لغيره‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن على الخطيب فى العيدين أن يفرد النساء باللقاء لهن والموعظة، ويخبرهن بما يخصهن من تقوى الله، والنهى عن كفران العشير، وما يلزمهن من ذلك، إذا لم يمكنه إسماعهن، فحينئذ يمر بهن ويعظهن بالكلمة والكلمتين فى موضعهن، كما فعل النبى‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الصدقة تكفر الذنوب التى بين المخلوقين‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الكلام القبيح من اللعن والسخط مما يعذب الله عليه‏.‏

وفيه‏:‏ أن للعالم أن يكلم من دونه من المتعلمين بكلام يكون عليهم فيه بعض الشدة والتنقيص فى العقل‏.‏

وقال غيره‏:‏ مقابلة الجماعة بالوعظ تسهل فيه الشدة، لأنه يسليهم شموله لجماعتهم، وكذلك فعل النبى بالنساء، لم يخص منهن واحدة، وإنما قابل جماعتهن، وكذلك الواعظ والخطيب له أن يشتد فى وعظه للجماعة، ولا يقابل واحدًا بعينه بالشدة، بل يلين له ويرفق به‏.‏

وفى هذا الحديث ترك العتب للرجل أن تغلب محبة أهله عليه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد عذره، بقوله‏:‏ تمت ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن- فإذا كن يغلبن الحازم فما الظن بغيره‏.‏

باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الآيَةَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا‏.‏

وَكَانَ الرَسُول يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ‏:‏ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ‏:‏ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ‏:‏ ‏(‏قَل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ الآيَةَ‏.‏

قَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ‏:‏ حَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلا تُصَلِّى‏.‏

وقال الْحَكَمُ‏:‏ إِنِّى لأذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ‏.‏

وقال اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ أنها حاضت بسَرِفَ، فَقَالَ لها النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِنَّ ذَلِكِ شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِى مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِى-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الباب كله مبنى على مذهب من إجاز للحائض والجنب تلاوة القرآن، وهو قول حماد بن أبى سفيان، والحكم بن عتيبة، وأهل الظاهر‏.‏

وقال إبراهيم النخعى‏:‏ لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها، وأجاز عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة، ذكره الطبرى‏.‏

واختلف قول مالك فى قراءة الحائض، فروى عنه ابن القاسم وغيره إباحة الحائض أن تقرأ ما شاءت من القرآن، وروى عنه ابن عبد الحكم منعها من ذلك إلا الآية والآيتين‏.‏

ومنعها أبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور من قليله وكثيره، وروى مثله عن جابر ابن عبد الله، وعن عطاء، وأبى العالية، وسعيد بن جبير، والزهرى‏.‏

وكذلك اختلف قول مالك فى قراءة الجنب، فروى عنه ابن القاسم أنه يقرأ الآية والاثنتين للارتباع وشبهه، وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال‏:‏ إنه ليأخذ بنفسى أن يقرأ الجنب القرآن‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب، وآية النزول‏:‏ تمت سبحان الذى سخر لنا هذا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ الآية،‏)‏ وقل رب أنزلنى منزلا مباركًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يقرأ الجنب إلا بعض آية، ومنعه الشافعى قليله وكثيره‏.‏

وأما اختلاف السلف فى ذلك فروى عن جابر أن الحائض لا تقرأ القرآن، وهو قول أبى العالية، وعطاء، وسعيد بن جبير، والزهرى، وروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وجابر أنه لا يقرأ الجنب القرآن، وهو قول أبى وائل‏.‏

وحجة الذين كرهوا ذلك، ما رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تمت لا يقرأ الجنب والحائض شيئًا من القرآن-‏.‏

واحتج من منع الجنب بما رواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على، قال‏:‏ لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يحجبه عن القرآن شىء غير الجنابة‏.‏

واحتج الذين أجازوا ذلك بأن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب، فقيل له فى ذلك، فقال‏:‏ ما فى جوفى أكثر منه‏.‏

وقال حماد‏:‏ سألت ابن المسيب أيقرأ الجنب القرآن‏؟‏ قال‏:‏ أليس فى جوفه‏؟‏‏.‏

وبما رواه عبادة بن نسى، عن عبد الرحمن بن غنم أنه سأل معاذ بن جبل أيقرأ الجنب القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إن شاء، قلت‏:‏ والحائض والنفساء‏؟‏ قال‏:‏ نعم، لا يدعن أحد ذكر الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت‏:‏ فإن الناس يكرهونه، قال‏:‏ من كرهه فإنما كرهه تنزهًا، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير علم، ما نهى رسول الله عن شىء من ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ واعتلوا من طريق النظر بأن تلاوة القرآن قد ندب إليها الناس كما ندبوا إلى ذكر الله والتسبيح والتهليل، قالوا‏:‏ وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، قالوا‏:‏ وقراءة القرآن فى معنى ذلك فى أنها مطلقة لهما، إذ لا حجة تفرق بين ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندنا فى ذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا، وخبر عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، فإن قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه لأفضل الحالتين، والحال التى كان يذكر الله فيها ويقرأ القرآن غير طاهر، فإن ذلك كان تعليمًا منه أن ذلك جائز لهم وغير محظور عليهم ذكر الله وتلاوة القرآن، إذ بعثه الله إلى خلقه معلمًا وهاديًا، غير أنى أستحب له أن يقرأ القرآن على أتم أحوال الطهارة، وليس ذلك وإن أحببته بواجب، لأن الله لم يوجب فرض الطهارة على عبادة المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى شهود الحائض المناسك كلها وتكبيرها فى العيدين دليل على جواز قراءتها للقرآن، لأنه من السنة ذكر الله فى المناسك، وفى كتابه إلى هرقل بآية من القرآن دليل على ذلك، وعلى جواز حمل الحائض والجنب القرآن، لأنه لو كان حرامًا لم يكتب النبى إليهم بآى من القرآن، وهو يعلم أنه يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، لكن القرآن وإن كان لا يلحقه أذى، ولا تناله نجاسة، فالواجب تنزيهه وترفيعه عمن لم يكن على أكمل أحوال الطهارة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 13، 14‏]‏، فلم يكن إطهاره تكريمه وترفيعه ما ظهر ملك مكرم الصحف التى وصفها الله تعالى بالطهارة، كما أراك فى رواية القاسم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏ ليس بمعنى الإلزام والحتم بل بمعنى الأدب والتوقير، وأباح للحائض قراءة القرآن لطول أمرها، وكرهه للجنب إلا الشىء اليسير، لقرب أمره‏.‏

باب الاسْتِحَاضَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَاتْرُكِى الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فى هذا الحديث حجة لمالك والشافعى فى أن المستحاضة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أنها تعتبر الدم وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إنما تعمل على عدد الليالى والأيام، واحتج بحديث أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبى حبيش‏:‏ تمت إنما ذلك عرق، ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى-‏.‏

وقد روى‏:‏ تمت دعى الصلاة قدر أقرائك-، واحتج أيضًا بحديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ تمت لتنظر عدد الليالى والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الدم الذى أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك الشهر-‏.‏

قالوا‏:‏ فردها صلى الله عليه وسلم إلى الأيام، وتركوا حديث مالك، عن هشام بن عروة الذى فيه اعتبار الدم، وهو يرد قولهم، ويدل أن الأيام لا حكم لها بمجردها، وإنما لها حكم مع الدم، فيجب أن يدار معه حيث دار، لأنه لا يقول لها‏:‏ تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، وإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة-، إلا وهى عارقة بالحيضة، فإذا ميزتها عملت على إقبال الدم وإدباره، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة‏:‏ تمت دعى الصلاة أيام أقرائك-، الذى احتج به أبو حنيفة فى مراعاة الأيام والليالى، حجة عليه أيضًا، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ تمت دعى الصلاة أيام أقرائك-، فدل أنها كانت مميزة، فأحالها على أيام أقرائها التى تعرفها مع وجود الدم الذى لا تعرفه، لأنه لما قال‏:‏ أيام حيضتك، أو أيام أقرائك، فلابد أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته، وإلا كان مشكلا، لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض أو غيره، ولو أراد أيام حيضتك فيما مضى، لكان أيضًا مشكلا إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيض تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييز وظنت مع التمييز أنه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أن حكمها واحد فى ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضى أيامها التى كانت تحيضها أنها تغتسل وتصلى، وأنها إذا رأت الدم الذى تعرفه فى تلك الأيام أنها تترك الصلاة‏.‏

هذا قول ابن القصار، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله فى حديث مالك، عن هشام بن عروة‏:‏ تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة-، فى امرأة لها تمييز، وقوله‏:‏ تمت لتنظر عدد الأيام والليالى-، فى امرأة لا تمييز لها، فيكون الحديثان فى امرأتين مختلفتى الأحوال‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا يشبه قول الكوفيين، لأن الكوفيين يقولون‏:‏ إذا لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فإنها تترك الصلاة عدد أيام حيضتها المعروفة إن كان لها أيام، وإن لم تكن لها أيام فعدة عشرة أيام، الذى هو عند أبى حنيفة أكثر الحيض، ثم تكون مستحاضة، تصوم وتصلى، ويأتيها زوجها، حتى تأتى على مثل أيامها من الشهر المستقبل، فتترك الصلاة عددها، ثم هى مستحاضة، ثم لا تزال تفعل ذلك فى كل شهر، ولا تراعى تغير الدم‏.‏

وعند مالك إذا لم تميز إقبال الدم وإدباره، فهى- قبل‏:‏ تقضى أكثره، تقعد إلى أكثر أيامها المعروفة إن كان لها أيام، أو قعدت خمسة عشر يومًا، الذى هو أكثر الحيض- وبعد ذلك تصلى أبدًا، وإن طال انتظارها لأن دمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض، ولا تشك فيه فتعمل على إقباله وإدباره، وهذا قول الكوفيين الذين يراعون الأيام أيضًا، فيمن لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، ولا يراعون الدم، ووافقهم الشافعى، وعند مالك أنه لابد من مراعاة الدم مع مقدار الأيام سواءً ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أو لم تميزه، فإن ميزته عملت على إقبال الدم وإدباره سواء كان قبل تقضى مدة أكثر الحيض، أو بعده، فإن لم تميزه فهى قبل تقضى أكثره تقصد إلى الكثرة، وبعد ذلك تصلى أبدًا حتى ترى دمًا لا شك فيه، فتعمل على إقباله وإدباره‏.‏

والدليل على أن لفظ الحديثين، وإن كان مختلفًا فهو فى امرأة واحدة فى حالة واحدة، أن فاطمة هذه سألت النبى صلى الله عليه وسلم لما تمادى الدم بها وجاز أيام حيضتها المعروفة، فقال لها‏:‏ إن دمك ليس دم حيض، وإنما هو دم عرق، ودم العرق لا يوجب حكمًا، فإذا أقبلت الحيضة وميزت دمها بلونه ورائحته فدعى الصلاة، لأنه لا يقول لها ذلك إلا وهى عارفة بالحيضة، وكذلك قوله‏:‏ تمت إذا أدبرت-، لا يقوله إلا للمميزة لدم الاستحاضة من دم الحيضة، ثم لما تمادى بها الدم، سألته سؤالاً ثانيًا، ليزيدها شفاء فى مقدار جلوسها، إذ لم يكن فى جوابها الآخر، فى رواية مالك عن هشام، مقدار الأيام التى تجلسها، وإنما كان فيه اعتبار الدم خاصة، فأرادت الاستثبات فى أمرها، إذ قد يمكن أن يطول ذلك الدم بها، فقال لها‏:‏ تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها-، فأخبرها بمقدار مدة الأيام، وقد كان أمرها مرة أخرى أن تعمل على إقبال دم الحيض وإدباره، فوجب اعتبار تغير الدم، واعتبار قدر الأيام، واستعمال الحديثين جميعًا إذ كان كل واحد منهما يبين معنى صاحبه ولا يخالفه‏.‏

وإن قيل‏:‏ كيف يعتبر قدر الأيام‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ وجه ذلك، والله أعلم، لو أن امرأة كانت تحيض عن رأس كل هلال ثمانية أيام، فأطبق عليها الدم ولم ينقطع عنها، فإنا نقول لها‏:‏ صلى حتى ترى دمًا تنكرينه، فإن رأت الدم المنكر قبل رأس الهلال بثلاثة أيام أو أربعة احتسبت بتلك الأيام، وجلست عن الصلاة تمام ثمانية أيام على ما كانت تعتاده، وهكذا تفعل أيضًا إن تغير الدم بعد رأس الهلال بأيام، فإن بقى الدم بحاله لم تترك الصلاة، لأن دمها دم عرق، وإنما تعتبر أبدًا تغير الدم مع مقدار الأيام‏.‏

ومما يدل على صحة ما قلنا، أن الحديثين وإن اختلف لفظ الجواب فيهما عن النبى صلى الله عليه وسلم فى امرأة واحدة وقصة واحدة أن حديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

إنما كان فى قصة فاطمة بنت أبى حبيش، وأنها كانت تسأل عن حالها أبدًا بنفسها، وتبعث غيرها على السؤال رغبة فى الاستثبات، وتزيد اليقين فى أمرها ويدل على ذلك ما رواه الحميدى عن سفيان بن عيينة، قال‏:‏ حدثنا أبو أيوب السختيانى، عن سليمان بن يسار، أنه سمعه يحدث عن أم سلمة أنها قالت‏:‏ كانت فاطمة بنت أبى حبيش تستحاض، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ تمت إنه ليس بالحيضة، ولكنه عرق، وأمرها أن تدع الصلاة قدر أقرائها، أو قدر حيضتها، ثم تغتسل‏.‏

وهذا يدل أن قدر الدم أو قدر أيام الدم واحد فى المعنى، لأن القُرء اسم للدم واسم للوقت، وأن أم سلمة فهمت ذلك فى جواب واحد، فى مسألة واحدة‏.‏

واختلفوا فى مقدار المدة التى تترك فيها المستحاضة الصلاة، فأما المبتدأة فى الحيض يتمادى بها الدم، ففى رواية المدونة عن مالك أنها تقعد خمسة عشر يومًا ثم تصلى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنها تقعد أيام لداتها، ثم هى مستحاضة‏.‏

وحكى ابن حبيب أن قول مالك اختلف فيها، فقال مرة‏:‏ تقعد خمسة عشر يومًا، وأخذ به الأكابر من أصحابه‏:‏ المغيرة، وابن دينار، وابن أبى حازم، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع‏.‏

وقال بعد مالك‏:‏ تقعد قدر أيام لداتها، وأخذ به‏:‏ ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ثم اختلفوا فى الاستطهار على أيام لداتها، فقال ابن كنانة وأصبغ‏:‏ تستطهر على أيام لداتها بثلاثة أيام، وقال ابن القاسم‏:‏ لا تستطهر، والمعروف عن ابن القاسم خلاف ما حكاه ابن حبيب‏.‏

وقد حكى أبو الفرج أن ابن القاسم روى عن مالك فى المبتدأة بالدم أنها تقعد أيام لداتها، ثم تستطهر بثلاثة أيام كاستطهار التى لها أيام معروفة‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ إذا استمر بالمبتدأة الدم تدع الصلاة عشرًا، ثم تغتسل وتصلى عشرين يومًا، ولا تزال تفعل ذلك كل شهر حتى ينقطع عنها الدم، واحتجوا بما رواه الخالد ابن أيوب، عن أنس، قال‏:‏ أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة‏.‏

وهذا لا حجة فيه لأن الخالد ابن أيوب مجهول، ولا يعتد بنقله‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ تقعد كما تقعد نساؤها‏:‏ أمها، وخالتها، وعمتها، ثم هى بعد ذلك مستحاضة، فإن لم تعرف أقراء نسائها، فلتقعد على أقراء النساء سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلى وهى مستحاضة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وهو أحد قولى الشافعى‏.‏

فإن كانت المرأة ممن قد حاضت، ولها أيام متفقة لم تختلف، فإن قول مالك اختلف فيها إذا تمادى بها الدم، فكان أول قوله‏:‏ أنها تقعد خمسة عشر يومًا، وبه أخذ الأكابر من أصحابه الذين ذكرنا أولاً، ثم رجع فقال‏:‏ تستطهر على أيامها بثلاث ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وأخذ به‏:‏ ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ‏.‏

فإن اختلفت أيامها، فقال ابن القاسم، ومن قال معه بالاستطهار‏:‏ أنها تستطهر على أكثر أيامها، حاشا أصبغ، فإنه قال‏:‏ على أقلها‏.‏

فإن أطبق عليها الدم، ولم ينقطع عنها، فإنها تغتسل بعد خمسة عشر يومًا على قول مالك الأول من بعد أيامها، والاستطهار بثلاث على قوله الآخر، ثم تصلى، وتصوم، ويأتيها زوجها، ودمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض‏.‏

والنساء يعرفنه بلونه ورائحته‏.‏

فإذا تغير دم الاستحاضة إلى دم الحيض، وتمادى بها الدم المتغير، ففى المستخرجة روى عيسى، عن ابن القاسم، أنها تستطهر بثلاثة أيام على مقدار أيامها المعهودة، وقاله ابن الماجشون‏.‏

وروى أصبغ عن ابن القاسم أنها تجلس مقدار أيامها المعهودة ولا تستطهر بشىء، وفى العتبية عن ابن القاسم أنها تستطهر مقدار أيامها إذا كان لون دمها متغيرًا، وأما إن انقطع التغير قبل تمام أيام حيضتها المعهودة، وعاد إلى دم الاستحاضة، فإنها تغتسل حينئذ، ويكون بمنزلة من انقطع دمها، وهو قول أصحاب مالك كلهم إلا أصبغ، فإن ابن مزين حكى عنه أنه إذا تغير دمها إلى الحيض قبل تمام أيامها، ثم عاد بعد ذلك إلى دم الاستحاضة، فإنها تقعد مقدار أيامها تلفق من أيام الاستحاضة مع أيام الدم المتغير مقدار أيام حيضتها المعهودة، وهذا خلاف الحديث، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة إذا أدبرت الحيضة، وأقبل دم الاستحاضة، أنها تغتسل وتصلى‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وإنما انتهى فى أكثر الحيض إلى خمسة عشر يومًا من أجل أنه يقال‏:‏ أكثر ما تدع المرأة الصلاة نصف عمرها، أخبرنى بذلك مطرف، وقد روى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

ودفع الكوفيون والشافعى الاستطهار، واحتجوا بقوله لفاطمة‏:‏ تمت دعى الصلاة عدد الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى-‏.‏

فأمرها بالغسل بعد أيامها المعروفة، ولم يأمرها بالاستطهار، ولا بالزيادة على أيام حيضتها، قالوا‏:‏ فالسنة تنفى الاستطهار، لأن دمها جائز أن يكون حيضة، وجائز أن يكون استحاضة، والصلاة فرض بيقين، فلا يجوز أن تدعها حتى تتيقن أنها حائض، قالوا‏:‏ وقد قال مالك ما يدل على ذلك، قال‏:‏ لأن تصلى المستحاضة وليست عليها، خير من أن تدع الصلاة، وهى واجبة عليها‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك، قال‏:‏ إنا لنقول‏:‏ تستطهر الحائض، وما ندرى أحق هو أم لا، ذكره ابن المواز‏.‏

واختلفوا فى المستحاضة تترك الصلاة أيام استحاضتها جاهلة، أو متأولة، فروى أبو زيد عن ابن القاسم‏:‏ إنها إذا تركت الصلاة جاهلة، أنها لا تعيدها ولو أعادتها كان أحب إلىّ‏.‏

وقال ابن شعبان‏:‏ إذا تركت المستحاضة الصلاة شهرًا تظنه حيضًا أنه لا قضاء عليها، وكذلك النفساء لو طال بها الدم ثلاثة أشهر، وظنت أنه دم نفاس‏.‏

وأنكر سحنون هذا من قول ابن القاسم، وقال‏:‏ عليها الإعادة، وقال‏:‏ لا يعذر أحد فى الصلاة بالجهل، وبهذا قال‏:‏ أبو حنيفة، والشافعى‏.‏

واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لقول ابن القاسم أنه لا إعادة عليها بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، فقال‏:‏ ألا ترى قولها‏:‏ إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة‏؟‏‏.‏

فدل ذلك أنه طال انتظارها للدم حتى تفاحش عليها، وهى فى ذلك تاركة الصلاة، فقالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ تمت إنما ذلك عرق-، ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلوات فى أول انتظارها‏.‏

وقال غيره‏:‏ بل حديث فاطمة هذا يدل أن عليها الإعادة، لأنها إنما قالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنى لا أطهر أفأدع الصلاة‏؟‏ فدل أنها كانت مصلية تلك الأيام، لأنها لا تقول‏:‏ أفأدع الصلاة إلا مَنْ هى فاعلة للصلاة وغير تاركة لها، إلا أنه لما تمادى بها الدم، خشيت أن يكون حيضًا، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم هل تتمادى على ما كانت عليه من التزام الصلاة أم هل تتركها‏؟‏ فأجابها صلى الله عليه وسلم بجواب دل على أنها لو تركتها لكان عليها قضاؤها، وذلك قوله‏:‏ تمت ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى-‏.‏

فدل أنه لا تسقط الصلاة عنها إلا فى مقدار أيام حيضتها خاصة‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت فاغسلى عنك الدم وصلى-‏.‏

فإن العلماء مجمعون على أن المستحاضة تغتسل عند إدبار الحيضة، ودل أيضًا هذا الحديث أن المستحاضة لا يلزمها الوضوء عند كل صلاة، ولا يلزمها غير ذلك الغسل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بغيره، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفى ذلك رد على من رأى عليها الغسل لكل صلاة، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتى النهار بغسل واحد، وبين صلاتى الليل بغسل واحد، وتغتسل للصبح، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشىء من ذلك كله فى حديث هشام بن عروة، وهو أصح ما فى هذا الباب‏.‏

وأما مذاهب العلماء فى ذلك‏:‏ فإن طائفة منهم ذهبت إلى أنه يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة، ورووا فى ذلك آثارًا عن النبى صلى الله عليه وسلم وروى هذا عن على، وابن عباس، وابن الزبير، وقالوا‏:‏ لا يأتى عليها وقت صلاة إلا وهى شاكة هل هى طاهر، أو حائض‏؟‏‏.‏

فوجب عليها الغسل لكل صلاة‏.‏

وعن سعيد بن جبير مثله، وقال آخرون‏:‏ يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحدًا، وللمغرب والعشاء غسلاً واحدًا، وللصبح غسلاً واحدًا، ورووا بذلك آثارًا‏.‏

وروى عن على، وابن عباس مثل ذلك، وهو قول النخعى، وقال آخرون‏:‏ تغتسل كل يوم مرة أى وقت شاءت، وروى ذلك عن على‏.‏

وقال آخرون‏:‏ تغتسل من طهر إلى طهر، هذا قول ابن عمر، وأنس، وعن الحسن، وعطاء، وسالم، وسعيد بن المسيب مثله‏.‏

وقد روى عن ابن المسيب أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر، وهو انقضاء أيام دمها، أو تمييز إقبال استحاضتها، وهو قول مالك، وسائر فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا، هل تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل‏؟‏ فذهب الثورى، وأبو حنيفة، والليث، والأوزاعى، والشافعى، إلى أنها تغتسل غسلاً واحدًا عند إدبار حيضتها أو إقبال استحاضتها، ثم تغسل عنها الدم، وتتوضأ لكل صلاة‏.‏

واحتجوا بما رواه حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فى حديث فاطمة بنت أبى حبيش، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ تمت فإذا ذهب قدرها فاغسلى عند الدم، وتوضئ وصلى-‏.‏

قالوا‏:‏ وهذه زيادة لحماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، يجب قبولها، وقد كانت عائشة تفتى بالوضوء لكل صلاة، وهى رواية الحديث، فهى أعلم بمخرجه‏.‏

وذهب عكرمة، وربيعة، ومالك، وأيوب، وجماعة‏:‏ إلى أنها تغتسل عند إدبار حيضتها، وإقبال استحاضتها، ولا تتوضأ إلا عند إيجاب الحدث، على ما جاء فى حديث هذا الباب‏.‏

وقالوا‏:‏ هكذا رواه مالك، والليث، وعمرو بن الحارث، عن هشام بن عروة وهم الحفاظ، ولم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، وقد علل ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ تمت إنما ذلك دم عرق، وليس بالحيضة-‏.‏

ودم العروق لا يوجب وضوءًا للصلاة كالفصاد‏.‏

ولما كان دم الاستحاضة لا يفسد الصلاة، لم يوجب طهارة، لأنَّا نجدها تصلى، وإن قطر الدم على الحصير، ولا لجرح تتوضأ، وحرمة الصلاة أوكد، فوجب أن تكون فى غير الصلاة كذلك‏.‏

باب غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْر، أن امْرَأَةٌ سَألت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، فَلْتَقْرُضْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّى فِيهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِضُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّى فِيهِ‏.‏

قد تقدم القول فى هذين الحديثين فى باب غسل الدم فى كتاب الوضوء، وحديث عائشة يفسر حديث أسماء، وأن ما روته من نضح الدم، فمعناه الغسل كما قالت عائشة، فأما نضحها على سائره، فهو رش لا غسل، وإنما فعلت ذلك، لتطيب نفسها لأنها لم تنضح على مكان فيه دم، لأنه قد بان فى هذه الرواية أنها كانت تغسل الدم، فلا يجوز أن تغسل بعضه وتنضح بعضه، وإنما نضحت ما لا دم فيه دفعًا للوسوسة، وكذلك حكم الثوب إذا شك فيه هل أصابه نجاسة أم لا‏.‏

فالنضح عند الفقهاء لأن الأصل فى كل شىء طاهر أنه على طهارته، حتى يتيقن حلول النجاسة فيه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت تقرضه-، بمعنى تغسله بأطراف أصابعها، ومنه قيل‏:‏ قرضت فلانًا‏.‏

وإنما أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقرضه، لأن الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرض بالغسل كان أحرى بأن يذهب أثره، يُنَقَّى الثوب منه من أن يعنف عليه، ويغسل باليد كلها، قاله ابن قتيبة‏.‏

وفى كتاب العين‏:‏ قرضت الشىء قطعته‏.‏

و تمت الحيضة- بكسر الحاء الاسم، مثل القعدة والجلسة والركبة اسم للقعود والجلوس والركوب، والحيضة، بفتح الحاء، الفعلة الواحدة‏.‏